بحث هذه المدونة الإلكترونية

الاثنين، 15 فبراير 2010

في رحاب الفاتيكان: الصليب والهلال وصندوق الانتخابات


بقلم د.سعد الدين ابراهيم ١٩/ ٤/ ٢٠٠٨

شاركت مع آخرين في لقاء ثقافي وروحاني مثير في العاصمة الإيطالية، علي مرمي حجر من الفاتيكان، نظمته عدد من أشهر الجامعات الكاثوليكية في العالم ـ وعلي رأسها جامعات نوتردام، وليولا، وجورج تاون، والكلية الإكليريكية بالفاتيكان نفسه.

وقد اختار المنظمون لهذا اللقاء عنواناً، لا يخلو من الإثارة والاستفزاز، وهو «الصليب والهلال وصندوق الانتخابات». وحرص المنظمون علي دعوة عدد متساو من المسيحيين والمسلمين، من إندونيسيا إلي موريتانيا، ومن الفلبين إلي الأرجنتين. وبدأ اللقاء بصلوات إسلامية ومسيحية، وقراءات من الإنجيل والقرآن، وانتهي علي نفس الشاكلة.

وكان مطلوباً مني أن أعد ورقة عن «الإسلام والديمقراطية»، وكانت إحدي ملاحظاتي المبكرة، هي عدم وجود ورقة موازية عن «المسيحية والديمقراطية»، ضمن أوراق اللقاء وتساءلت عن السبب، فواجهتني علامات تعجب، توحي بأنه لا توجد إشكالية بين المسيحية والديمقراطية، كما هو الحال، بالنسبة للإسلام، لذلك انصرف الجزء الأول من ورقتي لتصحيح المفاهيم والقراءات للعلاقة بين الأديان والسياسة، عموماً، قبل الحديث عن الموقف من نظام معين للحكم، وهو «الديمقراطية».

١ـ فبداية، ليس لأي دين موقف محدد من أي نظام سياسي. هذا إذا احتكمنا للنصوص المقدسة، للتوراة والإنجيل والقرآن. فلا يوجد في أي منها ذكر لمصطلحات أو كلمات مثل «الديمقراطية» أو «الديكتاتورية»، أو «الفاشية» أو «الاشتراكية» أو «الشيوعية». فهذه جميعاً مصطلحات لمفاهيم مستحدثة، وتالية لظهور معظم الديانات السماوية والأرضية علي السواء. كما لا يوجد في أي من الكتب المقدسة فصل أو باب خاص حول «أنظمة الحكم»، لذلك لا يجوز منطقياً أن نقول إن هناك موقفاً للإسلام أو المسيحية أو اليهودية تجاه أي نظام من أنظمة الحكم، ولكن هذا لم يمنع البعض في الماضي والحاضر، وربما في المستقبل، من الحديث بهذا الشكل المغلوط.

٢ـ فإذا كان ذلك كذلك، فما هو المقبول منطقياً وعلمياً؟ في رأينا، وكما قلنا كتابة في ورقتنا للمؤتمر، الحديث عن معتقدات وممارسات لبشر، وجماعات، وشعوب يدين أصحابها بهذا الدين أو ذاك. فهناك مسيحيون اعتقدوا في، ومارسوا كل أشكال السياسة وأنظمة الحكم التي عرفتها بقية البشرية جمعاء ـ من العبودية للإقطاع، ومن الفاشية للديمقراطية للفوضوية. وما ينطبق علي المسيحيين، ينطبق علي غيرهم من أتباع الديانات الأخري، مثل الإسلام واليهودية والبوذية والهندوكية. إن الحديث عن معتقدات وممارسات أو سلوكيات بشر في مكان معين وزمان معين، يعصمنا من «الكبائر». فليس هناك مسلم أو مسيحي أو يهودي أو بوذي، يولد ديمقراطياً أو ديكتاتورياً ـ دعك مما يردده البعض عن «دين الفطرة»، من باب الحماسة أو التحيز لهذا الدين أو ذاك.

وكما لا يولد البشر ديمقراطيين أو فاشيين، فكذلك فهم لا يولدون مسلمين أو مسيحيين. ولكنهم يكتسبون أديانهم ومعتقداتهم من ذويهم، الذين يلقنونهم اللغة، ويعلمونهم دينهم وبقية عناصر ثقافتهم، التي تضفي علي كل منهم «هويته».. فهذا «مصري، عربي، مسلم.. وذاك مصري، عربي، مسيحي.. وهذا إيطالي، أوروبي، مسيحي، كاثوليكي.. وذاك إنجليزي، أوروبي، مسيحي، بروتستانتي.. وذاك يوناني، أوروبي، مسيحي، أرثوذكسي...» وهكذا فلا أحد يولد، وهو يدرك أو يعي تلقائياً من هو ـ لغة أو ثقافة، ديناً أو مذهباً، جنسية أو أيديولوجية. ولكنه يتعلم كل هذه، سواء بالتلقين المباشر أو المحاكاة والتقليد، لمن هم حوله صغار وكبار.

٣ـ إن هذا الاقتراب السوسيولوجي من قضايا الدين والسياسة، يسمح بالرصد والتوثيق والتحليل الأكثر واقعية وموضوعية من قضية المؤتمر، وهو «الصليب، والهلال، وصندوق الانتخابات». ولا يخفي علي فطنة القارئ أن الصليب يرمز للمسيحية، والهلال يرمز للإسلام، وصندوق التصويت يرمز للديمقراطية.

وحتي لا أكون «اعتذارياً» في الدفاع عن الإسلام، أو «عدائياً» في التعرض للمسيحية، فإنني لجأت إلي تاريخ الكنيسة الكاثوليكية الرومانية، والتي يرأسها بابا الفاتيكان، الذي كان يراقب أعمال المؤتمر عن بعد، فاقتبست مما أصدره اثنان من الباباوات من فتاوي:

أولهما، هو البابا جريجوري السادس عشر، يوم ١٧ مايو عام ١٨٣٥ حيث أفتي «بأن الله خالق هذا الكون، وكل ما فيه، هو الذي شاء لبعض البشر أن يحفظوا نظامه وأن يقودوا، ولآخرين أن يطيعوا، وأن يتبعوا...». وكانت هذه الفتوي هي الرد المباشر للكنيسة علي الثورة الفرنسية، وعلي شعاراتها حول «الحرية، والإخاء، والمساواة».

٤ـ وإحقاقاً للحق، لا بد من استعراض السياق الذي صدرت فيه فتوي الفاتيكان الأولي ضد المساواة والحرية ـ وهما معاً يعنيان الديمقراطية، فحينما انفجرت الثورة الفرنسية، فقد كانت ضد الملكية والإقطاع والكنيسة، لأن هذا الثلاثي كان هو عنوان النظام القديم Regime Ancient، الذي هبت الثورة لتعويضه. وقضت بالفعل علي ركنين من أركانه الثلاثة، وهما النظام الملكي والنظام الإقطاعي. وظلت الكنيسة قائمة، وقوية، وخاصة خارج فرنسا، فلم يستطع «الثوار»، إلا أن يشنوا عليها وعلي رجالها جملة كراهية مستمرة، وأن يلغوا أي تأثير لها في مناهج التعليم، وكذلك الأعياد والمناسبات الدينية. وكان الفريق الذي يقود هذه الحملة علي الكنيسة ورجالها هم «يعاقبة» الثورة الفرنسية، وهم الذين ابتدعوا أو روجوا لما يسمي «العلمانية»، علي الطريقة الفرنسية ـ أي المعادية للدين والكنيسة، وفصلهما تماماً عن الدولة وشؤونها. وردت الكنسية الكاثوليكية دفاعاً عن نفسها، بالحط، إن لم يكن بتحقير شعارات الثورة الفرنسية، ومنها الحرية والديمقراطية.

٥ـ ولكن خلال المائة وخمسين سنة التالية للثورة الفرنسية، جرت مياه كثيرة في أنهار أوروبا والبشرية، وتحت جسورها، ومنها ما هو أكثر بشاعة وهولاً من الثورة الفرنسية، فقد جاءت ثورة أخري هي البلشفية الشيوعية (١٩١٧)، لا لتعادي الكنيسة فقط، ولكن لتعادي الأديان جميعاً، وتحاول اقتلاعها وإبادتها. فإذا كان «يعاقبة» الثورة الفرنسية قد هاجموا الكنيسة بسبب تحالفاتها السابقة مع «العرش»، فإن «بلاشفة» الثورة الروسية قد هاجموا الدين عموماً، لأنه «أفيون»، روّج له الحكّام والإقطاعيون والرأسماليون، «لتخدير الشعوب».

ثم جاءت «النازية الألمانية» و«الفاشية الإيطالية»، و«العسكرية اليابانية»، لتدفع بالبشرية جمعاء في أتون حرب عالمية لم تشهد لها من قبل مثيلاً. وراجع الفاتيكان نفسه، واستخلص العبر من مسيرة المائة وخمسين عاماً السابقة. وفي يوم عيد الميلاد (٢٥ ديسمبر) عام ١٩٤٤، أفتي بابا الفاتيكان «ببوس الثاني عشر»، بفتوي مضادة تماماً لما كان قد أفتي به البابا جريجوري السادس عشر. ففي خطابه في ذلك اليوم، تحت عنوان «الديمقراطية والسلام الدائم»، قال: «تحت أهوال الحروب الكريهة، ونيرانها اللاظية، استيقظ الناس بعد طول غيبوبة في مواجهة الدولة ليسألوا، وينقبوا، ويشكوا، ويعارضوا بجرأة تركيز السلطة في ديكتاتوريات، لا يراقبها ولا يحاسبها أحد. إن من حق الناس أن يطالبوا بحكومات تحترم كرامتهم كمواطنين. وليس هذا ضد تعليمات الكنيسة. كما أنه ليس ضد هذه التعليمات الدعوة لأنظمة حكم شعبية، ما دامت لا تعادي الكنيسة أو تتعصب ضدها...».

٦ـ إن هذا التعبير في موقف الكنيسة الكاثوليكية من النقيض إلي النقيض له معني واحد. وأن السياق التاريخي والمجتمعي هو الذي يملي علي أتباع دين مواقفهم من أنظمة الحكم. وإذا كان هذا هو شأن قيادات الكنيسة الكاثوليكية، فلماذا نستغرب أن يحدث نفس الشيء للمسلمين وقياداتهم.

٧ـ وحتي لا نطلق الأحكام علي عواهنها، استعرضنا حالة الديمقراطية بين المسلمين في الوقت الراهن. وأهمها، أن ثلثي المسلمين في عالم اليوم يعيشون في ظل أنظمة حكم ديمقراطية ـ في إندونيسيا، وبنجلاديش، وماليزيا، والهند، وتركيا، ونيجريا والمغرب والسنغال، ومالي، وموريتانيا، والكويت، والبحرين. وفي ظل أنظمة حكم شبه ديمقراطية في لبنان والأردن وقطر والإمارات. وأما الثلث المتبقي، والذي لا يتمتع بعد بأنظمة حكم ديمقراطية، فهو في مصر والسعودية وسوريا وليبيا والسودان.. أي أنه يتركز بين «عرب مسلمين»، فالمشكلة هي أساساً في عروبتهم وليس في إسلامهم. أي أن بعض العرب، أو بالأحري بعض حكامهم، هم الذين ألصقوا بالإسلام والمسلمين تهمة «العداء للديمقراطية».

http://www.almasry-alyoum.com/article2.aspx?ArticleID=101810

ليست هناك تعليقات: